تجري العبارة الأخيرة في رواية "رام الله الشقراء" (عبّاد يحيى، دار الفيل 2013) هكذا: " في رام الله نكتفي من الأشياء بأسمائها .. هذا قدر محتوم يفتك بكل من يدخلها ". إيجازٌ بليغ إلى حد اليأس لعالمٍ يتكون من شظايا أينما التفتَ؛ إلى الشوارع والبارات والمطاعم والمراكز الثقافية والمقتطفات الشعرية المضحكة المنتشرة في غير أماكنها، إلى جموع الفرنجة المتغلغلين في كل زاوية في مشهد يذكرك فوراً بأحياء القدس وعكا ويافا إبان حروب الفرنجة في القرون الوسطى، إلى الفلسطينيين الجدد في رام الله مبتورة لا تكتمل فيها إلا أوهامهم. وخلف ذلك يلمح الراوي والراوية، الشريكان في صياغة النص، عيون شهداء دامعة، وعيون أطفال مفتوحة على اتساعها دهشة، ويستمعان إلى نحيب لاجئين في مخيمات تحاذيها وتطل عليها فنادق مترفة وسعيدة.
الفرقُ بين هذه المدينة المصنوعة من شظايا ومدينة الشاعر اليوناني "كفافيس"، أن أناسها وزعماؤها لا يجلسون عند البوابات في انتظار البرابرة، بل هم يجدونهم بينهم وقد اتخذوا أسماء المارينز وموظفي المؤسسات الغربية المانحة وجواسيس الموساد؛ يجلسون معهم على الموائد نفسها في المطاعم، ويجاورونهم في مسرح القصبة، ويراقبونهم عبر عدسات التصوير المنتشرة في الشوارع كلها. لم يعد الفلسطيني الجديد، أو تمثيله الطاغي، يتساءل ماذا نفعل، وقد جاءت أخبار تراجع البرابرة، ولم يعد يفكر كما فكر يونان "كفافيس" المنتظرون عند البوابات :" لقد كانوا نوعاً من الحل" ، بل بدا كمن يتنفس الصعداء ويقول "هاهم جاءوا أخيراً" ، وتحول شعب الحجارة إلى شعب الزجاج، زجاج العمائر الحديثة، وحتى الذاكرة التي بقيت ميراثاً للمدينة لم تعد كذلك؛ فهاهي تتسرب أيضاً، كما تسرب المكان، وأصبح كل من يذكر بالاحتلال والمحتلين البرابرة كأنه قادم من زمن آخر. الجميع هنا يتسلى حتى بالذاكرة.
*
لا يترك لنا الراوي والراوية فضاء محايداً كما تفعل الروايات التقليدية، بل يوحدان الفضاء؛ هو داخل/خارج في وقت واحد معاً. إنه الرواية وراويها وراويتها وشخصياتها، الصديقة والمعادية، وهو رام الله وشوارعها وحاناتها ومنازلها والطرق المؤدية إليها ومنها؛ الحاضر الماثل الحي والماضي الباهت على خلفية اللوحة، وهو جموع الفرنجة المتعددي الجنسيات والأوراق النقدية. وقبل كل شيء، في هذا الفضاء، هذه ليست رام الله التي تعلن عنها بيانات السياسيين المصنوعين من الرغوة وقصص العائدين البلهاء وقصائد موزعي الورود على أبناء ثورة تحولت إلى مكاتب وراتب وربطة عنق، إنها مدينة أخرى لن يعود منها القارئ بعد القراءة مثلما كان يراها. ستتغير أشياء في نفسه وفي ما حوله، سيتغير عالمه.
المفارقة أن زوايا التقاط هذه المشاهد تجري في العالم الافتراضي، عالم التواصل الالكتروني بين الراوي والراوية، يسرد الراوي مشاهداته ويناقشها مع الراوية، وهذه الأخيرة تفعل الأمر نفسه، في محاولة إيهام غير مقصودة على الأغلب، بأن هذا العالم الافتراضي أكثر دقة وأصدق مقاربة من عالم الواقع. ولكن هل الواقع سوى مشهد تختبره الأبصار والمشاعر، الذاكرة والنسيان، في سياق حياتنا؟
هذا العالم الافتراضي يشبه حلم الشعراء الأصدق من يقظة الآخرين، أو هو النفاذ من المسرح إلى ما ورائه؛ إلى الكواليس التي تصنع فيها الأوهام التي نراها ونحسب انها الواقع ذاته. إلى المستعمرة السعيدة بتخيلاتها، كما هم سكانها المكتفون من الأشياء بأسمائها. يقول الراوي " يعمل الإسرائيليون على تطويع المكان حين يتعذر تطويع الإنسان حتى لا تبقى هناك أرض صالحة لمواجهتهم" والحقيقة هي أن الأولوية كانت تطويع الوطن، لأن مجرد تحويل الوطن إلى مكان يعني أن البرابرة انتهوا من مهمتهم، ونفضوا الغبار عن أيديهم.
هل أصبحت رام الله مجرد مكان؟
هذا هو ما تقوله الرواية بمزيج من السخرية والألم، سخرية من مجتمع مواطنين فتحوا أبواب مدينتهم للبرابرة ووجدوا فيهم نوعاً من الحل؛ وألم من إدراك أن هذا الحل يشبه بناء مدينة من حطام مدينة مزدهرة سابقة؛ ولكنه بناء نوع من مدينة كاريكاتورية، تستخدم فيها تيجان الأعمدة المحطمة أوعية لتربية الصيصان، وزخارف المحاريب الجميلة لتزيين مداخل البارات، وتشد خصور الراقصات بكوفيات الشهداء، ويحمل السماسرة فيها حقائب طافحة بالدولارات كانت جعباً للمقاتلين.
رام الله لا تنسى فقط وظائف أشياء الماضي فتضعها في غير أماكنها، بل تمارس دعارة فكرية لا مثيل لها، فتعلق أجمل عبارات شعرائها على جدران مكاتب سماسرة العقارات، وتطلق اسم مقاوم فقير مات في المنفى على أفخم شوارعها المترفة، وتحشر اسم كبار مفكريها في أزقة مظلمة. رام الله هنا في هذه الرواية مهرجان زائف طال التستر على زيفه في كتابات جوقة المنتفعين بأموال غزاة الفرنجة. لهذا السبب ربما أثارت رواية "رام الله الشقراء" رعب هؤلاء، وبثت الفزع في أطراف كل من يتشدق بالسعي إلى المكارم وهو القاعد المتنعم بفتات المحتلين.
*
قلتُ إن الراوي/الراوية اختار لسرد روايته عالماً افتراضياً، ومع ذلك جاء هذا العالم أصدق من أوهام الواقعيين في السياسة والثقافة والاقتصاد والتربية. ولا أظن ان هذا الاختيار جاء لأن المراسلات الالكترونية أصبحت مألوفة فقط، بل لأنها حالة كتابية فرضت نفسها في التواصل، ولأنها تحمل ابتكارا دالا في السرد؛ ثمة تشظية على أرض الواقع الفلسطيني تماثل تشظي العوالم الافتراضية.
ما يحدث في مدينة مثل رام الله، تلك المستعمرة المحتلة بكل صنوف الاحتلال، فعل محوري أول؛ إنه توسيع الفضاء الخاوي بين الفرد والفرد، وبين الفرد والمؤسسة، بين فلسطين وهذه النتف المسماة الضفة الغربية. هذا عالم نقيض للواقع الذي حلم به الإنسان الفلسطيني وهو يقاوم ويتجمع ويجمع شتاته؛ الشتات يمتد ويمتد إلى أبعاد لا تستطيع اللغة تسميتها. حتى لغتنا المتداولة، ماضيا وحاضراً، تقف حائرة أمام التسمية، أمام "التمثيل" بعد أن فقد أصحابها القدرة على التسمية والتمثيل؛ من يسمينا الآن ويقوم "بتمثيلنا" في الخطاب السياسي/ الثقافي/ الاقتصادي/ الاجتماعي هو الآخر، هو البربري الذي يقيم مستعمراته على أرضنا وفي أدمغة الفلسطيني الجديد الذي اخترعه الفرنجة. نحن ليس لنا من الأشياء سوى أسمائها كما يقول الراوي الفذ في التنقل من زاوية إلى أخرى، والماهر بعفوية بالغة في إزاحة الستار عن المسرحية الحقيقية القائمة وراء الكواليس.
التكوين عبر التشظية والتنافر وسيلة جمالية لم تعرفها الرواية التقليدية، وبدأت تعرفها الرواية الفلسطينية حين اقتربت من جغرافية الواقع العميق بعيداً عن الورق. طموح هذه الرواية ليس أن تكون أوراقاً، ولا أن تواصل هذه الصناعة كما كان حال الخطابات الفلسطينية في الماضي القريب، طموحها أن تقارب الحياة وتجعلها هي البطل بدلا من صناعة أبطال من ورق.
الفتكُ هو الفعل المحوري الآخر في سياق هذا السرد، فتك بالإنسان الفلسطيني بعد أن تم الفتك بأرضه وشجره وحجارته، فتكٌ يحوله إلى نادلٍ في مطاعم يرتادها البرابرة وخدمهم حاملي حقائب رجال الأعمال والسماسرة، أو إلى "سقاء" و"حطاب" بتعبير توراة الفرنجة يتلمظ بترداد الأسماء دون جوهرها، أو إلى مأخوذ ويائس في وقت واحد معاً بأصوات وألوان وملمس مهرجان غريب عنه.
في الشوارع الخلفية وفي أقاصي الذاكرة يتكوم الفلسطينيون المحرومون من الوطن، بينما يرقص في مهرجان الفرنجة القادمين من كل الأرجاء، سماسرة أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد السعداء حتى الحافة بالملايين التي تتجمع في حساباتهم المصرفية، وبالأضواء المسلطة عليهم، وبالشقراوات الهامسات في آذانهم. هذه هي رام الله المستعمرة الداعرة التي أبرز تضاريسها عباد يحيى بشجاعة نادرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقطع بعنوان انكشاف من رواية "رام الله الشقراء" لعبّاد يحيى، الطبعة الأولى- "دار الفيل" القدس 2013.
* انكشاف
أتعلمين، إن واصلنا الحديث بهذه الطريقة سنصاب بـ "الفرنجة فوبيا" أو "الأجانب فوبيا"، ولا أظنّنا نريد ذلك، مع وجود مما يبرر قلقنا.
أشعر أنّنا نعيش أكثر المراحل انكشافاً، ولا ملاذ ولا ملجأ لنا أمام كلّ هذا الاستهداف، لا أدري إن كان هنالك مكان في العالم يدخل إليه هذا الكمّ الهائل من الأجانب ولا تملك السلطات المسؤولة فيه أيّة معلومات عنهم، ولا تملك أن تحتج على أيّ نشاط يمارسونه، السلطة هنا هي على الفلسطينيين فقط، حرفياً هي علينا نحن فقط.
أُلاحظ دوماً أنّ الأجانب يسيرون حاملين آلات التصوير بكلّ أشكالها، وبخلاف بحثهم عن كلّ عاديّ يرونه هم يستحق التصوير، ووقوفهم موقفَ المستكشف الأول لغرائب العالم الجديد؛ فإنّهم يستطيعون تصوير أيّ شيء من مرافق حكومية ورجال أمن ــــــــــــ بل إنّ بعضهم يلتقط الصور مع أفراد الأمن الوطني كتذكار ــــــــــــ ومؤسسات "سيادية"! ولا يجدون من يسألهم عن المواد المصورة ولأيّة جهة تذهب. قد يكون هذا طبيعياً، إلا أنّ العجيب الغريب أنّ الحال في غاية الاختلاف إن كانت العين وراء العدسة فلسطينية؛ تُصادر الكاميرا غالباً ولا ينجو صاحبها وإن كان صحفياً، وللطرافة تجدين في رام الله الكثيرين يهزأون مما يصوّره الأجانب، ويعتبرون تصوير الشوارع والناس وسيارات الأمن والبنايات ضرباً من "قلّة العقل".
دعينا من الأجانب، أخبرني صحفي زميل يدرج في عالم إخراج الأفلام الوثائقية، أنّه فكّر في إنجاز مادة توثيقية بالاعتماد على كاميرات المراقبة الموزّعة في المتاجر والمجمّعات التجارية والطرقات في قلب رام الله.
صاحبنا توصّل إلى أنّ السير من فندق قصر الحمراء صوب دوّار المنارة عبر شارع الإرسال، ومن ثمّ العبور إلى دوّار الساعة، والعودة منه إلى شارع ركب حتّى آخره؛ كلّه مرصود بهذه الكاميرات التي يُفرَض على أصحاب المحلات والمتاجر تركيبها!
بلغته: يمكن عمل مشهد متواصل لسير أحدهم في قلب رام الله وشوارعها الرئيسة بالاعتماد على كاميرات المراقبة المفروضة على الجميع، ولن يكون الشخص المرصود ضمن هذه المسافة في أيّة لحظة خارج مجال عيون العدسات.
من يصدق أنّ هذا يجري في شوارع كانت تعطّل فيها الإنارة ليلاً حتّى يتحرّك أفراد الفصائل دون أيّة رقابة، أو إمكانية رصد من أحدهم، يوزّعون منشوراً سياسياً أو يكتبون على الجدران شعارات الانتفاضة وتهديد العملاء بالعواقب الوخيمة.
ليس هذا وحسب، ففكرة الفيلم الوثائقيّ القصير كانت كفيلة بكشف هذا الرصد المهول، فرفضت الشرطة منحه الإذن بالعمل، ومن اللّافت في حديثه عن الفكرة غير المنفذة، أنّ بقالة صغيرة ضمن هذا المحيط تُجبر على تركيب عدة كاميرات، في حين لا تجدين أيّة كاميرا مراقبة في متاجر صياغة الذهب والمجوهرات في نابلس مثلاً.
آه يا زمن الإنكشاف!
يتهكم صديقي ويقول معلقاً على عمارات الزجاج تتكاثر كالفطريات في رام الله: "شعب الحجارة يتحول إلى شعب الزجاج".